فصل: تفسير الآيات رقم (179- 183)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 183‏]‏

‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض، وهو أعم مما بالرجوع، جاء نظم الآيات على ذاك؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه صلى الله عليه وسلم وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ما كان الله‏}‏ أي مع ما له من صفات الكمال‏.‏

ولما كان ترك التمييز غير محمود، عبر بفعل الوذر، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال‏:‏ ‏{‏ليذر المؤمنين‏}‏ أي الثابتين في وصف الإيمان ‏{‏على ما أنتم عليه‏}‏ من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال للاقتناع بدعوى اللسان دليلاً على الإيمان ‏{‏حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏ بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد، المخلصون في الاعتقاد ‏{‏وما كان الله‏}‏ لاختصاصه بعلم الغيب ‏{‏ليطلعكم على الغيب‏}‏ أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم ‏{‏ولكن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يجتبي‏}‏ أي يختار اختياراً بليغاً ‏{‏من رسله من يشاء‏}‏ أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏.‏ ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال‏:‏ ‏{‏فأمنوا بالله‏}‏ أي في عالم الغيب والشهادة، له الأسماء الحسنى ‏{‏ورسله‏}‏ في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن تؤمنوا‏}‏ أي بالله ورسله ‏{‏وتتقوا‏}‏ أي بالمداومة على الإيمان وما يقتضيه من العمل الصالح ‏{‏فلكم أجر عظيم *‏}‏ أي منه أنه لا يضركم كيد أعدائكم شيئاً كما تقدم وعدكم به‏.‏

ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر‏:‏ أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك‏.‏ وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن‏}‏ أي أنت يا خير البرية- هذا على قراءة حمزة، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ أي عن الحقوق الشرعية ‏{‏بما آتاهم الله‏}‏ أي بجلاله وعز كماله ‏{‏من فضله‏}‏ أي لا لاستحاقهم له ببخلهم ‏{‏هو خيراً لهم‏}‏ أي لتثمير المال بذلك ‏{‏بل هو‏}‏ أي البخل ‏{‏شر لهم‏}‏ لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم ‏{‏سيطوقون‏}‏ أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه ‏{‏ما يخلوا به‏}‏ أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة، تلزم الإنسان منهم، محيطة بعنقه، تضربه في جانبي وجهه ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- يعني بشدقيه- يقول‏:‏ أنا مالك‏!‏ أنا كنزك‏!‏- ثم تلا هذه الآية»‏.‏ ولما كان هذا طلباً منهم للإنفاق، وكان الطالب منا محتاجاً إلى ما يطلبه، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏ميراث السماوات والأرض‏}‏ أي اللذين هذا مما فيهما، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن أملى لهم، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض، ويكون هو الوارث لذلك كله‏.‏

ولما كانت هذه الجمل في الإخبار عن المغيبات دنيا وأخرى، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم‏.‏ ولما كان منصب النبي صلى الله عليه وسلم الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق‏:‏ ‏{‏بما تعملون خبير *‏}‏‏.‏

ولما كان العمل شاملاً لتصرفات الجوارح كلها من القلب واللسان وسائر الأركان قال- دالاًّ على خبره بسماع ما قالوه متجاوزين وهدة البخل إلى حضيض القبح مريدين التشكيك لأهل الإسلام بما يوردونه من الشبه قياساً على ما يعرفونه من أنفسهم من أنه- كما تقدم- لا يطلب إلا محتاج-‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله‏}‏ أي الذي له جميع الكمال ‏{‏قول الذين قالوا‏}‏ أي من اليهود ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏فقير‏}‏ أي لطلبه القرض ‏{‏ونحن أغنياء‏}‏ لكونه يطلب منا، وهذا رجوع منه سبحانه وتعالى إلى إتمام ما نبه عليه قبل هذه القصة من بغض أهل الكتاب لأهل هذا الدين وحسدهم لهم وإرادة تشكيكهم فيه للرجوع عنه على أسنى المناهج وأعلى الأساليب‏.‏

ولما تشوفت النفوس إلى جزائهم على هذه العظيمة، وكانت الملوك إذا علمت انتقاص أحدها وهي قادرة عاجلته لما عندها من نقص الأذى بالغيظ قال سبحانه وتعالى مهدداً لهم مشيراً إلى أنه على غير ذلك‏:‏ ‏{‏سنكتب‏}‏ أي على عظمتنا لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه في الدنيا ‏{‏ما قالوا‏}‏ أي من هذا الكفر وأمثاله، والسين للتأكيد، ويجوز أن تكون على بابها من المهلة للحث على التوبة قبل ختم رتب الشهادة، وسيأتي في الزخرف له مزيد بيان‏.‏

ولما كان هذا اجتراء على الخالق أتبعه اجتراءهم على أشرف الخلائق فقال- مشيراً بإضافة المصدر إلى ضميرهم، وبجمع التكسير الدال على الكثير إلى أنهم أشد الناس تمرداً تمرناً على ارتكاب العظائم، وأن الاجتراء على أعظم أنواع الكفر قد صار لهم خلقاً-‏:‏ ‏{‏وقتلهم الأنبياء‏}‏ أي الذي أقمناهم فيهم لتجديد ما أوهوه من بنيان دينهم، ولما لم يكن في قتلهم شبهة أصلاً يقال‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ فهو أعظم ذمّاً مما قبله من التعبير بالفعل المضارع في قوله ‏{‏ويقتلون الأنبياء بغير حق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏‏.‏ ثم عطف على قوله ‏{‏سنكتب‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ونقول‏}‏ أي بما لنا من الجلال ‏{‏ذوقوا‏}‏ أي بما نمسكم به من المصائب في الدنيا والعقاب في الأخرى كما كنتم تذوقون الأطعمة التي كنتم تبخلون بها فلا تؤدون حقوقها ‏{‏عذاب الحريق *‏}‏ جزاء على ما أحرقتم به قلوب عبادنا، ثم بين السبب فيه بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي العذاب العظيم ‏{‏بما قدمت أيديكم‏}‏ أي من الكفر بقتلهم وبغيره ‏{‏وأن‏}‏ أي وبسبب أن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏ليس بظلام‏}‏ أي بذي ظلم ‏{‏للعبيد *‏}‏ ولو لم يعذبكم لكان ترككم على صورة الظلم لمن عادوكم فيه واشتد أذاكم لهم‏.‏

ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله- رادّاً شبة لهم أخرى ومبيناً قتلهم الأنبياء‏:‏ ‏{‏الذين قالوا‏}‏ تقاعداً عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏عهد إلينا‏}‏ وقد كذبوا في ذلك ‏{‏ألا نؤمن لرسول‏}‏ أي كائن من كان ‏{‏حتى يأتينا بقربان‏}‏ أي عظيم نقربه لله تعالى، فيكون متصفاً بأن ‏{‏تأكله النار‏}‏ عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيان لأنهم ما أرادوا- بقولهم ‏{‏إن الله فقير‏}‏ حيث طلب الصدقة- إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به، بل وادعوا أنه لا يصح دين بغيره‏.‏

ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل‏}‏ فضلاً عن رسول‏.‏ ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال ‏{‏من قبلي‏}‏ كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام ‏{‏بالبينات‏}‏ أي من المعجزات ‏{‏وبالذي قلتم‏}‏ أي من القربان فإن الغنائم لم تحل- كما في الصحيح- لأحد كان قبلنا، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول ‏{‏فلم قتلتموهم‏}‏ أي قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه ‏{‏إن كنتم صادقين *‏}‏ أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه، وفي ذلك رد على الفريقين‏:‏ اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 188‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه السورة متضمنة لكثير من الدقائق التي أخفوها من كتابهم الذي جعلوه قراطيس، يبدونها ويخفون كثيراً، وفي هذه الآية بخصوصها من ذلك ما يقتضي تصديقه صلى الله عليه وسلم وكان سبحانه عالماً بأن أكثرهم يعاندون سبب عن ذلك أن سلاه في تكذيب المكذبين منهم بقوله‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك‏}‏ فكان كأنه قيل‏:‏ هذا الذي أعلمتك به يوجب تصديقك، فإن لم يفعلوا بل كذبوا ‏{‏فقد‏}‏ ولما كان السياق لإثبات مبالغتهم في الغلظة والجفاء والكفر وعدم الوفاء وكانت السورة سورة التوحيد، والرسل متفقون عليه، وقد أتى كل منهم فيه بأنهى البيان وأزال كل لبس أسقط تاء التأنيث لأنها ربما دلت على نوع ضعف فقال‏:‏ ‏{‏كذب رسل‏}‏ ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال ‏{‏من قبلك‏}‏ أي فلك فيهم مسلاة وبهم أسوة ‏{‏جآءو بالبينات‏}‏ أي من المعجزات ‏{‏والزبر‏}‏ أي من الصحف المضمنة للمواعظ والحكم الزواجر والرقائق التي يزبر العالم بها عن المساوي ‏{‏والكتاب المنير‏}‏ أي الجامع للأحكام وغيرها‏.‏ الموضح لأنه الصراط المستقيم‏.‏

ولما تقدم في قصة أحد رجوع المنافقين وهزمية بعض المؤمنين مما كان سبب ظفر الكافرين، وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه، وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ ‏{‏ولئن قتلتم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 157‏]‏ ‏{‏قل فادرءوا عن أنفسكم الموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 168‏]‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ وغير ذلك مما بكتهم به في رجوعهم حذر الموت وطلب امتداد العمر، مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم وقتله ممكن كما كان من قبله من إخوانه من الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام‏!‏ وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل، فكان ذلك محققاً لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام، مضموماً إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة؛ صوَّر ذلك الموت بعد أن صار مستحضراً للعيان تصويراً أوجب التصريح به إشارة إلى أن حالهم في هربهم ورجوعهم وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس‏}‏ أي منفوسة من عيسى وغيره من أهل الجنة والنار ‏{‏ذآئقة الموت‏}‏ أي وهو المعنى الذي يبطل معه تصرف الروح في البدن وتكون هي باقية بعد موته لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيّاَ حساساً، ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار، وهو عبد محتاج، فالعاقل من سعى في النجاة منها والإنجاء كما فعل الخلص الذين منهم عيسى ومحمد عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها وأنه ليس بظلام للعبيد شديد الحسن، وذلك مناسب أيضاً لختم الآية بالتصريح لتوفية الأجور يوم الدين، وأن الزحزحة عن النار ودخول الجنة لهو الفوز، لا الشح في الدنيا بالنفس والمال الذي ربما كان سبباً لامتداد العمر وسعة المال بقوله‏:‏ ‏{‏وإنما توفون‏}‏ أي تعطون ‏{‏أجوركم‏}‏ على التمام جزاء على ما عملتموه من خير وشر ‏{‏يوم القيامة‏}‏ وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر ونحوه فبعض لا وفاء ‏{‏فمن زحزح‏}‏ أي أبعد في ذلك اليوم إبعاداً عظيماً سريعاً ‏{‏عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ أي بالحياة الدائمة والنعيم الباقي‏.‏

والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت، فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم، وكذا من أطاعك، ويجازون هم على ما فرطوا في حقك فيقذفون في غمرة النار، وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل، أي إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا، وذلك ترهيباً من الالتفات إلى تعجل شيء من الأجر في الدنيا- كما قال أبو بكر رضي الله عنه في أول إسلامه‏:‏ وجدت بضاعة بنسيئة، ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها، وهي لا إله إلا الله‏.‏ فالحاصل أن «كل نفس» أي حذرة من الموت ومستسلمة ‏{‏ذائقة الموت‏}‏ أي فعلام الاحتراس منه بقعود عن الغزو أو هرب من العدو‏!‏ ‏{‏وإنما توفون أجوركم‏}‏ أي يا أهل الإسلام التي وعدتموها على الأعمال الصالحة ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا ‏{‏فمن‏}‏ أي فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى تسبب عن ذلك أنه من ‏{‏زحزح عن النار‏}‏ أي بكونه وفي أجره ولم يتعجل طيباته ‏{‏وأدخل الجنة‏}‏ أي بما عمل من الصالحات فحاز الحياة الدائمة مع الطيبات الباقية ‏{‏فقد فاز‏}‏ أي كل الفوز، ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك صح قوله‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا‏}‏ أي التي أملي لهم فيها وأزيلت عن الشهداء ‏{‏إلا متاع الغرور *‏}‏ أي المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به فيغبنوا بترك الباقي وأخذ الأشياء الزائلة بانقضاء لذاتها والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها‏.‏

وفي ذلك أيضاً مناسبة من وجه آخر، وهو أنه لما سلاه سبحانه وتعالى بالرسل- الذين لازموا الصبر والاجتهاد في الطاعة حتى ماتوا- وأممهم‏.‏ وتركوا ما كان بأيديهم عاجزين عن المدافعة، ولم يبق إلا ملكه سبحانه وتعالى، وأن الفريقين ينتظرون الجزاء، فالرسل لتمام الفوز، والكفار لتمام الهلاك؛ أخبر أن كل نفس كذلك، ليجتهد الطائع ويقتصر العاصي، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن أحد خوف القتل وقالوا عن الشهداء‏:‏ ‏{‏لو أطاعونا ما قتلوا‏}‏ أي إن الذي فررتم منه لا بد منه، والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به، فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضى مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه والوقوف بين يديه‏.‏

ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم لما بما لقي إخوانه من الرسل وبأنه لا بد من الانقلاب إليه، فيفوز من كان من أهل حزبه، ويشقى من والى أعداءه وذوي حزبه؛ أعاد التسلية على وجه يشمل المؤمنين، وساقها مساق الإخبار بحلول المصائب الكبار التي هي من شعائر الأخيار في دار الأكدار المعلية لهم في دار القرار فقال- مؤكداً لأن الواقف في الخدمة ينكر أن يصيبه معبوده بسوء، هذا طبع البشر وإن تطبّع بخلافه، وأفاد ذكره قبل وقوعه تهوينه بتوطين النفس عليه، وأفاد بناؤه للمفعول أن المنكى البلاء لا كونه من جهة معينة-‏:‏ ‏{‏لتبلون‏}‏ أي تعاملون معاملة المختبر لتبيين المؤمن من المنافق ‏{‏في أموالكم‏}‏ أي بأنواع الإنفاق ‏{‏وأنفسكم‏}‏ أي بالإصابة في الجهاد وغيره، فكما نالكم ما نالكم من الأذى بإذني ليلحقنكم بعده من الأذى ما أمضيت به سنتي في خلص عبادي وذوي محبتي، وكان إيلاء ذلك للآية التي فيها الإشارة إلى أن توفية الأجور للأعمال الصالحة مما ينيل الفوز مناسباً من حيث الترغيب في كل ما يكون سبباً لذلك من الصبر على ما يبتلي به سبحانه وتعالى من كل ما يأمر به من التكاليف، أو يأذن فيه من المصائب، وقدم المال لأنه- كما قيل- عديل الروح، وربما هان على الإنسان الموت دون الفقر المؤدي إلى الذل بالشماتة والعار بما تقصر عنه يده بفقده من أفعال المكارم، وما أحسن ذكر هذه الآية إثر قصة أحد التي وقع فيها القتل بسبب الإقبال على المال، وكان ذكرها تعليلاً لبغضة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار‏.‏

ولما كان يومها يوم بلاء وتمحيص، وكان ربما أطمع في العافية بعده، فتوطنت النفس على ذلك فاشتد انزعاجها بما يأتي من أمثاله، وليس ذلك من أخلاق المشمرين أراد سبحانه وتعالى توطين النفوس على ما طبعت عليه الدار من الأثقال والآصار، فأخبر أن البلاء لم ينقص به، بل لا بد بعده من بلايا وسماع أذى من سائر الكفار، ورغب في شعار المتقين‏:‏ الصبر الذي قدمه في أول السورة ثم قبل قصة أحد، وبناها عليه معلماً أنه مما يستحق أن يعزم عليه ولا يتردد فيه فقال‏:‏ ‏{‏ولتسمعن‏}‏ أي بعد هذا اليوم ‏{‏من الذين‏}‏ ولما كان المراد تسوية العالم بالجاهل في الذم نزه المعلم عن الذكر فبنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ أي من اليهود والنصارى ‏{‏ومن الذين أشركوا‏}‏ أي من الأميين ‏{‏أذى كثيراً‏}‏ أي من الطعن في الدين وغيره بسبب هذه الوقعة أو غيرها ‏{‏وإن تصبروا‏}‏ أي تتخلقوا بالصبر على ذلك وغيره ‏{‏وتتقوا‏}‏ أي وتجعلوا بينكم وبين ما يسخط الله سبحانه وتعالى وقاية بأن تغضوا عن كثير من أجوبتهم اعتماداً على ردهم بالسيوف وإنزال الحتوف ‏{‏فإن ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة ‏{‏من عزم الأمور *‏}‏ أي الأشياء التي هي أهل لأن يعزم على فعلها، ولا يتردد فيه، ولا يعوق عنه عائق، فقد ختمت قصة أحد بمثل ما سبقت دليلاً عليه من قوله‏:‏

‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ إلى أن ختم بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ ما أخبر به هنا بأنه من عزم الأمور‏.‏

ولما قدم سبحانه وتعالى في أوائل قصص اليهود أنه أخذ على النبيين الميثاق بما أخذ، وأخبرهم أنه من تولى بعد ذلك فهو الفاسق، ثم أخبر بقوله‏:‏ ‏{‏قد جائكم رسل من قبلي‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏ ‏{‏فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 184‏]‏ أن النبيين وفوا بالعهد، وأن كثيراً من أتباعهم خان؛ ثنى هنا بالتذكير بذلك العهد على وجه يشمل العلماء بعد الإخبار بسماع الأذى المتضمن لنقضهم للعهد، فكان التذكير بهذا الميثاق كالدليل على مضمون الآية التي قبلها، وكأنه قيل‏:‏ فاذكروا قولي لكم ‏{‏لتبلون‏}‏ واجعلوه نصب أعينكم لتوطنوا أنفسكم عليه، فلا يشتد جزعكم بحلول ما يحل منه ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏إذ أخذ الله‏}‏ الذي لا عظيم إلا هو ‏{‏ميثاق الذين‏}‏‏.‏

ولما كانت الخيانة من العالم أشنع، وكان ذكر العلم دون تعيين المعلم كافياً في ذلك بنى للمجهول قوله‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ أي في البيان، فخافوا فما آذوا إلا أنفسهم، وإذا آذوا أنفسهم بخيانة عهد الله سبحانه وتعالى كانوا في أذاكم اشد وإليه أسرع، أو يكون التقدير‏:‏ واذكروا ما أخبرتكم به عند ما أنزله بكم، واصبروا لتفوزوا، واذكروا إذ اخذ الله ميثاق من قبلكم فضيعوه كيلا تفعلوا فعلهم، فيحل بكم ما حل بهم من الذل والصغار في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من عذاب النار‏.‏

هذا ما كان ظهر لي أولاً، ثم بان أن الذي لا معدل عنه أنه لما انقضت قصة أحد وما تبعها إلى أن ختمت بعد الوعظ بتحتم الموت الذي فر من فر منهم منه وخوّف الباقين أمره بمثل ما تقدم أن جعلها دليلاً عليه من بغض أهل الكتاب وما تبعه؛ عطف على «إذا» المقدرة لعطف ‏{‏وإذا غدوت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ عليها- قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أخذ الله‏}‏ أي اذكروا ذلك يدلكم على عداوتهم، واذكروا ما صح عندكم من إخبار الله تعالى المشاهد بإخبار من أسلم من الأحبار والقسيسين أن الله أخذ ‏{‏ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي من اليهود والنصارى بما أكد في كتبه وعلى ألسنة رسله‏:‏ ‏{‏ليبيننه‏}‏ أي الكتاب ‏{‏للناس ولا يكتمونه‏}‏ أي نصيحة منهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المؤمنين وعامتهم ليؤمنوا بالنبي المبشر به ‏{‏فنبذوه‏}‏ أي الميثاق بنبذ الكتاب ‏{‏ورآء ظهورهم‏}‏ حسداً لكم وبغضاً، وهو تمثيل لتركهم العمل به، لأن من ترك شيئاً وراءه نسيه ‏{‏واشتروا به‏}‏ ولما كان الثمن الذي اشتروه خسارة لا ربح فيه أصلاً على العكس مما بذلوه على أنه ثمن، وكان الثمن إذا نض زالت مظنة الربح منه عبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ثمناً‏}‏ وزاد في بيان سفههم بقوله‏:‏ ‏{‏قليلاً‏}‏ أي بالاستكثار من المال والاستئمار للرئاسة، قكتموا ما عندهم من العلم بهذا النبي الكريم ‏{‏فبئس ما يشترون *‏}‏ أي لأنه مع فنائه أورثهم العار الدائم والنار الباقية، وعبر عن هذا الأخذ بالشراء إعلاماً بلجاجهم فيه، ونبه بصيغة الافتعال على مبالغتهم في اللجاج‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنهم احتووا على المال والجاه بما كتموا من العلم وأظهروا من خلافه المتضمن لمحبة أهل دينهم فيهم وثنائهم عليهم بأنهم على الدين الصحيح وأنهم أهل العلم، فهم أهل الاقتداء بهم؛ قال سبحانه وتعالى مخبراً عن مآلهم تحذيراً من مثل حالهم على وجه يعم كل امرئ‏:‏ ‏{‏لا تحسبن‏}‏ على قراءة الجماعة بالغيب ‏{‏الذين يفرحون بما آتوا‏}‏ أي مما يخالف ظاهره باطنه‏.‏ وتوصلوا به إلى الأغراض الدنيوية من الأموال والرئاسة وغير ذلك، أي لا يحسبن أنفسهم، وفي قراءة الكوفيين ويعقوب بالخطاب المعنى‏:‏ لا تحسبنهم أيها الناظر لمكرهم ورواجهم بسببه في الدنيا واصلين إلى خير ‏{‏ويحبون أن يحمدوا‏}‏ أي ويجد الثناء بالوصف الجميل عليهم ‏{‏بما لم يفعلوا‏}‏ أي بذلك الباطن الذي لم يفعلوه، قال ابن هشام في السيرة‏:‏ أن يقول الناس‏:‏ علماء، وليسوا بأهل علم، لم يتحملوهم على هدى ولا حق‏.‏

ولما تسبب عن ذلك العلمُ بهلاكهم قال‏:‏ ‏{‏فلا تحسبنهم‏}‏ أي تحسبن أنفسهم، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب وضم الباء وعلى قراءة الجماعة المعنى‏:‏ لا تحسبنهم أيها الناظر ‏{‏بمفازة من العذاب‏}‏ بل هم بمهلكة منه ‏{‏ولهم عذاب أليم *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 195‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل «يحسب» فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال وحده ‏{‏ملك السماوات والأرض‏}‏ أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إليه، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏على كل شيء قدير *‏}‏ وهو شامل القدرة، فمن كان في ملكه كان في قبضته، ومن كان في قبضته كان عاجزاً عن التفصي عما يريد به، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو- كما افتتح به السورة‏.‏

ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم، وذلك هو اتباع الملة الحنيفية، وهو متوقف على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه- مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي- للشبهات وبيانه للخفيات، وأظهر مكابرة أهل الكتاب، وفضحهم أتم فضيحة، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظماً ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوار المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض‏}‏ أي على كبرهما وما فيهما من المنافع، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله‏:‏ ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ أي اختلافاً هو- كما ترون- على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم ‏{‏لآيات‏}‏ أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله‏:‏ ‏{‏لأولي الألباب *‏}‏ وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة، لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة‏.‏ فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع، وختم تلك بما هو لأول السلوك‏:‏ العقل، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين‏.‏

ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتهم بما بين من يعتد بعقله فقال‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله‏}‏ أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك، وله جميع أوصاف الكمال‏.‏

ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر، عبر عنه لهذا التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال‏:‏ ‏{‏قياماً وقعوداً‏}‏ ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال‏:‏ ‏{‏وعلى جنوبهم‏}‏ أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم، فهم في غاية المراقبة‏.‏

ولما بدأ من أوصافهم بما يجلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرهما وضعف داعية الهوى، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال‏:‏ ‏{‏ويتفكرون‏}‏ أي على الأحوال‏.‏

ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس، وكانت آيات الآفاق أعظم ‏{‏لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏في خلق السماوات والأرض‏}‏ على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون- بما في ذلك من الأحكام مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام- أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏ما خلقت هذا‏}‏ أي الخلق العظيم المحكم ‏{‏باطلاً‏}‏ أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى، يكون فيها محض العدل، ويظهر فيها الفصل‏.‏

ولما كان الاقتصار على هذه الدار مع ما يشاهده من ظهور الأشرار نقصاً ظاهراً وخللاً بيناً نزهوه عنه فقالوا‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ وفي ذلك تعليم العباد أدب الدعاء بتقديم الثناء قبله، وتنبيه على أن العبد كلما غزرت معرفتة زاد خوفه فزاد تضرعه، فإنه يحسن منه كل شيء من تعذيب الطائع وغيره، ولولا أن ذلك كذلك لكان الدعاء بدفعه عبثاً، وما أحسن ختمها حين تسبب عما مضي تيقنهم أن أمامنا داراً يظهر فيها العدل مما هو شأن كل أحد في عبيده، فيعذب فيها العاصي وينعم فيها الطائع، كما هو دأب كل ملك في رعيته بقولهم رغبة في الخلاص في تلك الدار‏:‏ ‏{‏فقنا عذاب النار *‏}‏ على وجه جمع بين ذكر العذاب المختتم به آية محبّي المحمدة بالباطل، والنار المحذر منها في ‏{‏فمن زحزح عن النار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ ثم تعقبها بقولهم معظمين ما سألوا دفعه من العذاب ليكون موضع السؤال أعظم، فيدل على أن الداعية في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه أتم، مكررين الوصف المقتضي للإحسان مبالغة في إظهار الرغبة استمطاراً للإجابة‏:‏ ‏{‏ربنآ‏}‏ وأكدوا مع علمهم بإحاطة علم المخاطب إعلاماًَ بأن حالهم في تقصيرهم حال من أمن النار حثاً لأنفسهم على الاجتهاد في العمل فقالوا‏:‏ ‏{‏إنك من تدخل النار‏}‏ أي للعذاب ‏{‏فقد أخزيته‏}‏ أي أذللته وأهنته إهانة عظيمة بكونه ظالماً‏.‏

وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار *‏}‏ الحاسم لطمع من يظن منهم أنه بمفازة من العذاب، وأظهر موضع الإضمار لتعليق الحكم بالوصف والتعميم‏.‏

ولما ابتهلوا بهاتين الآيتين في الإنجاء عن النار توسلوا بذكر مسارعتهم إلى إجابة الداعي بقولهم ‏{‏ربنآ‏}‏ ولما كانت حالهم- لمعرفتهم بأنهم لا ينفكون عن تقصير وإن بالغوا في الاجتهاد، لأنه لا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره- شبيهة بحال من لم يؤمن؛ اقتضى المقام التأكيد إشارة إلى هضم أنفسهم بالاعتراف بذنوبهم فقالوا مع علمهم بأن المخاطب عالم بكل شيء‏:‏ ‏{‏إننا‏}‏ فأظهروا النون إبلاغاً في التأكيد ‏{‏سمعنا منادياً‏}‏ أي من قبلك، وزاد في تفخيمه بذكر ما منه النداء مقيداً بعد الإطلاق بقوله‏:‏ ‏{‏ينادي‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كانت اللام تصلح للتعليل ومعنى «إلى» عبر بها فقيل‏:‏ ‏{‏للإيمان‏}‏ ثم فسروه تفخيماً له بقولهم‏:‏ ‏{‏أن آمنوا بربكم‏}‏ ثم أخبر بمسارعتهم إلى الإجابة بقولهم‏:‏ ‏{‏فآمنا‏}‏ أي عقب السماع‏.‏ ثم أزالوا ما ربما يظن من ميلهم إلى ربوة الإعجاب بقولهم تصريحاً بما أفهمه التأكيد لمن علمه محيط‏:‏ ‏{‏ربنا فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي التي أسلفناها قبل الإيمان بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا، فيكون جابّاً لما قبله عندك كما كان جابّاً له في ظاهر الشرع، وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بغير توبة، وإليه الإشارة بقولهم‏:‏ ‏{‏وكفر عنا سيآتنا‏}‏ أي بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر ‏{‏وتوفنا مع الأبرار *‏}‏ أي ليس لنا سيئات‏.‏

ولما كان الله سبحانه وتعالى هو المالك التام الملك، فهو ذو التصرف المطلق الذي لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء؛ أشار إلى ذلك بقوله ملقناً لهم مكرراً صفة الإحسان تنبيهاً على مزيد الابتهال والتضرع والتخضع والتخشع‏:‏ ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا‏}‏ ثم أشار إلى صدق هذا الوعد بحرف الاستعلاء الدال على الالتزام والوجوب فقال‏:‏ ‏{‏على رسلك‏}‏ أي من إظهار الدين والنصر على الأعداء وحسن العاقبة وإيراث الجنة في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ وفي الدعاء بذلك إشارة إلى أنه لا يجب على الله سبحانه وتعالى شيء ولو تقدم به وعده الصادق وإن كنا نعتقد أنه لا يبدل القوة لديه ‏{‏ولا تخزنا يوم القيامة‏}‏ أي بالمؤاخذة بالسيئاتن ثم أرشدهم إلى الإلهاب والتهييج مع التنبيه على ما نبه عليه أولاً من أنه لا يجب عليه شيء بقوله باسطاً لهم بلذة المنادمة بالمخاطبة‏:‏ ‏{‏إنك لا تخلف الميعاد‏}‏‏.‏

ولما تسبب عن هذا الدعاء الإجابة لتكمل شروطه وهي استحضار عظمته تعالى بعد معرفته بالدليل وإدامة ذكره والتفكر في بدائع صنعه وافتتاحه بالثناء عليه سبحانه وتنزيهه والإخلاص في سؤاله قال‏:‏ ‏{‏فاستجاب‏}‏ أي فأوجد الإجابة حتماً ‏{‏لهم‏}‏ قال الأصفهاني‏:‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد- وقرأ هذه الآية‏.‏ وأشار إلى أنها من منّه وفضله بقوله‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم المتفضل عليهم ‏{‏إني لا أضيع عمل عامل منكم‏}‏ كائناً من كان ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ وقوله معللاً‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ التفات إلى قوله سبحانه ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ الناظر إلى قوله ‏{‏ذرية بعضها من بعض‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 34‏]‏ المفتتح بأن الله سبحانه وتعالى ‏{‏اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ المنادي بأن البشر كلهم في العبودية للواحد- الذي ليس كمثله شيء الحي القيوم- سواء من غير تفاوت في ذلك أصلاً، والمراد أنهم إذا كانوا مثلهم في النسب فهم مثلهم في الأجر على العمل‏.‏

ولما أقر أعينهم بألإجابة، وكان قد تقدم ذكر الأنصار عموماً في قوله‏:‏ ‏{‏ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم- وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 170-171‏]‏ خص المهاجرين بياناً لفضلهم وزيادة شرفهم بتحقيقهم لكونهم معه، لم يأنسوا بغيره ولم يركنوا لسواه من أهل ولا مال بقوله مسبباً عن الوعد المذكور ومفصلاً ومعظماً ومبجلاً‏:‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ أي صدقوا إيمانهم بمفارقة أحب الناس غليهم في الدين المؤدي إلى المقاطعة وأعز البلاد عليهم‏.‏

ولما كان للوطن من القلب منزل ليس لغيره نبه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وأخرجوا من ديارهم‏}‏ أي وهي آثر المواطن عندهم بعد أن باعدوا أهلهم وهم أقرب الخلائق إليهم، ولما كان الأذى مكروهاً لنفسه لا بالنسبة إلى معين بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وأوذوا‏}‏ أي بغير ذلك من أنواع الأذى ‏{‏في سبيلي‏}‏ أي بسبب ديني الذي نهجته ليسلك إليّ فيه، وحكمت أنه لا وصول إلى رضائي بدونه ‏{‏وقاتلوا‏}‏ أي في سبيلي‏.‏

ولما كان القتل نفسه هو المكروه، لا بالنسبة إلى معين؛ كان المدح على اقتحام موجباته، فبنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وقتلوا‏}‏ أي فيه فخرجوا بذلك عن مساكن أرواحهم بعد النزوح عن منازل أشباحهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أبلغ معنى، لأنها أشد ترغيباً في الإقدام على الأخصام، لأن من استقتل أقدم على الغمرات إقدام الأسد فقتل أخص منه ولم يقف أحد أمامه، فكأنه قيل‏:‏ وأرادوا القتل، هذا بالنظر إلى الإنسان نفسه، ويجوز أن يكون الخطاب للمجموع فيكون المعنى‏:‏ وقاتلوا بعد أن رأوا كثيراً من أصحابهم قد قتل ‏{‏لأكفرن عنهم سيئاتهم‏}‏ كما تقدم سؤالهم إياي في ذلك علماً منهم بأن أحداً لن يقدر على أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد ‏{‏ولأدخلنهم‏}‏ أي بفضلي ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ كما سبق به الوعد ‏{‏ثواباً‏}‏ وهو وإن كان على أعمالهم فهو فضل منه، وعظمه بقوله‏:‏ ‏{‏من عند الله‏}‏ أي المنعوت بالأسماء الحسنى التي منها الكرم والرحمة لأن أعمالهم لا توازي أقل نعمه ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام، ونبه على عظمة المحدث عنه بالعندية فقال‏:‏ ‏{‏عنده‏}‏ أي في خزائن ملكوته التي هي في غاية العظمة ‏{‏حسن الثواب *‏}‏ أي وهو ما لا شائبة كدر فيه، لأنه شامل القدرة بخلاف غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه المواعدة آجلة، وكان نظرهم إلى ما فيه الكفار من عاجل السعة ربما أثر في بعض النفوس أثراً يقدح في الإيمان بالغيب الذي هو شرط قبول الإيمان؛ داواه سبحانه بأن تلا تبشير المجاهدين بإنذار الكفار المنافقين والمصارحين الذين أملى لهم بخذلانهم المؤمنين بالرجوع عن قتال أحد وغيره من أسباب الإملاء على وجه يصدق ما تقدم أول السورة من الوعد بأنهم سيغلبون، وأن أموالهم إنما هي صورة، لا حقائق لها، عطفاً لآخرها على أولها، وتأكيداً لاستجابة دعاء أوليائه آخر التي قبلها بقوله مخاطباً لأشرف عباده، والمراد من يمكن ذلك عادة فيه، لأن خطاب الرئيس أمكن في خطاب الأتباع- ‏{‏لا يغرنك تقلب‏}‏ أي لا تغترر بتصرف ‏{‏الذين كفروا‏}‏ تصرف من يقلب الأمور بالنظر في عواقبها لسلامتهم في تصرفهم وفوائدهم وجودة ما يقصدونه في الظاهر كجودة القلب في البدن ‏{‏في البلاد *‏}‏ فإن تقلبهم ‏{‏متاع قليل‏}‏ أي لا يعبأ به ذو همة علية، وعبر بأداة التراخي إشارة إلى أن تمتيعهم- وإن فرض أنه طال زمانه وعلا شأنه- تافه لزواله ثم عاقبته، وإلى هول تلك العاقبة وتناهي عظمتها، فقال‏:‏ ‏{‏ثم مأواهم‏}‏ أي بعد التراخي إن قدر ‏{‏جهنم‏}‏ أي الكريهة المنظر الشديدة الأهوال، العظيمة الأوجال، لا مهاد لهم غيرها ‏{‏وبئس المهاد *‏}‏ أي الفراش الذي يوطأ ويسهل للراحة والهدوء‏.‏

ولما بين بآية المهاجرين أن النافع من الإيمان هو الموجب للثبات عند الامتحان‏.‏ وكانت تلك الشروط قد لا توجد، ذكر وصف التقوى العام للأفراد الموجب للإسعاد، فعقب تهديد الكافرين بما لأضدادهم المتقين الفائزين بما تقدم الدعاء إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم‏}‏ أي أوقعوا الاتصاف بالتقوى بالائتمار بما أمرهم به المحسن إليهم والانتهاء عما نهاهم شكراً لإحسانه وخوفاً من عظم شأنه ‏{‏لهم جنات‏}‏ وإلى جنات، ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ تعريفاً بدوام تنوعها وزهرتها وعظيم بهجتها‏.‏

ولما وصفها بضد ما عليه النار وصف تقلبهم فيها بضد ما عليه الكفار من كونهم في ضيافة الكريم الغفار فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ ولما كان النزل ما يعد للضيف عند نزوله قال معظماً ما لمن يرضيه‏:‏ ‏{‏نزلا‏}‏ ولما كان الشيء يشرف بشرف من هو من عنده نبه على عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏من عند الله‏}‏ مضيفاً إلى الاسم الأعظم، وأشار بجعل الجنات كلها نزلاً إلى التعريف بعظيم ما لهم بعد ذلك عنده سبحانه من النعيم الذي لا يمكن الآدميين وجه الاطلاع على حقيقة وصفه، ولهذا قال معظماً- لأنه لو أضمر لظن الاختصاص بالنزل- ‏{‏وما عند الله‏}‏ أي الملك الأعظم من النزل وغيره ‏{‏خير للأبرار *‏}‏ مما فيه الكفار ومن كل ما يمكن أن يخطر بالبال من النعيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 200‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

ولما كان للمؤمنين من أهل الكتابين- مع التشرف بما كانوا عليه من الدين الذي أصله حق- حظٌّ من الهجرة، فكانوا قسماً ثانياً من المهاجرين، وكان إنزال كثير من هذه السورة في مقاولة أهل الكتاب ومجادلتهم والتحذير من مخاتلتهم ومخادعتهم والإخبار- بأنهم يبغضون المؤمنين مع محبتهم لهم، وأنهم لا يؤمنون بكتابهم، وأنهم سيسمعون منهم أذى كثيراً إلى أن وقع الختم في أوصافهم بأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً- ربما أيأس من إيمانهم؛ أتبع ذلك مدح مؤمنيهم وغير الأسلوب عن أن يقال مثلاً‏:‏ والذين آمنوا من أهل الكتاب- إطماعاً في موالاتهم بعد التدريب بالتحذير منهم على مناواتهم وملاواتهم فقال‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ أي اليهود والنصارى ‏{‏لمن يؤمن بالله‏}‏ أي الذي حاز صفات الكمال، وأشار إلى الشرط المصحح لهذا الإيمان بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنزل إليكم‏}‏ أي من هذا القرآن ‏{‏وما أنزل إليهم‏}‏ أي كله، فيذعن ملا يأمر منه باتباع هذا النبي العربي، وإليه الإشارة بقوله جامعاً للنظر إلى معنى من تعظيماً لوصف الخشوع بالنسبة إلى مطلق الإيمان‏:‏ ‏{‏خاشعين لله‏}‏ أي لأنه الملك الذي لا كفوء له، غير مستنكفين عن نزل المألوف ‏{‏لا يشترون بآيات الله‏}‏ أي التي متى تأملوها علموا أنه لا يقدر عليها إلا من أحاط بالجلال والجمال، الآمرة لهم بذلك ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ بما هم عليه من الرئاسة ونفوذ الكلمة- كما تقدم قريباً في وصف معظمهم، فهم يبينونها ويرشدون إليها ولا يحرفونها‏.‏

ولما أخبر تعالى عن حسن ترحمهم إليه أخبر عن جزائهم عنده بما يسر النفوس ويبعث الهمم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العظيمو الرتبة ‏{‏لهم أجرهم‏}‏ أي الذي يؤملونه ثم زادهم فيه رغبة تشريفة بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي الذي رباهم ولم يقطع إحسانه لحظة عنهم، كل ذلك تعظيماً له من حيث إن لهم الأجر مرتين‏.‏

ولما اقتضت هذه التأكيدات المبشرات إنجاز الأجر وإتمامه وإحسانه، وكان قد تقدم أنه تعالى يؤتي كل أحد من ذكر وأنثى أجره، ولا يضيع شيئاً، ويجازي المسيء والمحسن، وكانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول زمن الحساب، وذلك سبب لطول الانتظار، وذلك سبب لتعطيل الإنسان عن مهماته ولضيق صدره بتفرق عزمه وشتاته كان ذلك محل عجب يورث توهم ما لا ينبغي، فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى على غير ذلك لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي بما له من الجلال والعظمة والكمال ‏{‏سريع الحساب *‏}‏ ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد وتجرع مرارات الأذى واقتحام الحروب واستهانة عظائم الكروب، والحث على المعارف الإلهية والآداب الشرعية من الأصول والفروع انخلاعاًَ من المألوفات إلى ما يأمر به سبحانه من الطاعات، وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات كانت نتيجة ذلك لا محالة قوله تعالى منبهاً على عظمة ما يدعو إليه لأنه شامل لجميع الآداب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي بكل ما ذكرنا في هذه السورة ‏{‏اصبروا‏}‏ أي أوقعوا الصبر تصديقاً لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه مما تكرهه النفوس مما دعتكم إليه الزهراوان ‏{‏وصابروا‏}‏ أي أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار والمنافقين وسائر العصاة، فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم ‏{‏ورابطوا‏}‏ أي بأن تربطوا في الثغور خيلاً بإزاء ما لهم من الخيول إرهاباً لهم وحذراً منهم- هذا أصله، ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور لأجل الذب عن الدين ولو لم تكن خيول، بل وتطلق على المحافظة على الطاعات، ثم أمر بملاك ذلك كله فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في جميع ذلك بأن تكونوا مراقبين له، مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه من عظمته بنعمته ونقمته ‏{‏لعلكم تفلحون *‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وظفره بما يريد من النصر على الأعداء والفوز بعيش الشهداء، وهذه الآية- كما ترى- معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين، المختتم به البقرة

‏{‏فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ داعية إلى تذكير أولي الألباب بالمراقبة للواحد الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء في اتباع آياته ومعاداة أعدائه، كما أن التي قبلها فيمن آمن بجميع الكتب‏:‏ هذا القرآن المصدق لما بين يديه والتوراة والإنجيل، كل ذلك للفوز بالفرقان بالنصر وتعذيب أهل الكفر بأيديهم تمكيناً من الله- والله عزيز ذو انتقام- ردّاً للمقطع على المطلع على أحسن وجه- والله أعلم بالصواب وعنده حسن المآب‏.‏

سورة النساء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت «النساء» لذلك، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد ‏{‏بسم الله‏}‏ الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي جعل الأرحام رحمة عامة ‏{‏الرحيم *‏}‏ الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة‏.‏

لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل- كما تبين في علم الأخلاق- أربعاً‏:‏ العلم والشجاعة والعدل والعفة، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها، وهما العلم والشجاعة- كما أشير إلى ذلك في غير آية ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏، ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 172‏]‏، ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ بعد اختتام تلك بخصوص «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا» الآية‏.‏

ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها، فكانت في غاية المشقة على النفوس، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس‏.‏ ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال‏:‏ ‏{‏الذي‏}‏ جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها، وذلك أنه ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏ هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين‏:‏ هذه وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه، وربت ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر؛ بين في هذه السورة بقوله- عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال‏:‏ كيف كان ذلك‏؟‏- إنشاء تلك النفس، أو تكون الجملة حالية- ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء‏:‏ أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه‏:‏ آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام- المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه- حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر عن غيرها بالجعل، لخلو السياق عن هذا الغرض، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام

‏{‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 40‏]‏ وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء- لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها- أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع- فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم‏!‏‏.‏

ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية، ولما كان الكل- المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره‏:‏ وبث لكم منه إليها‏:‏ ‏{‏وبث منهما‏}‏ أي فرق ونشر من التوالد، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله‏:‏ ‏{‏رجالاً كثيراً ونساءً‏}‏ من نفس واحدة؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار‏.‏

ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم‏.‏

ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذين تساءلون‏}‏ أي يسأل بعضكم بعضاً ‏{‏به‏}‏ فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف، ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال‏:‏ ‏{‏والأرحام‏}‏ أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها، فإنكم تقولون‏:‏ ناشدتك بالله والرحم‏!‏ وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة‏.‏ فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏كان عليكم‏}‏ وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد ‏{‏رقيباً *‏}‏ وخفض حمزة «الأرحام» المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها- كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية ‏{‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، وغيرها- أو كان قسماً، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة، وأحقهم بالصلة الولد، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال‏.‏

ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم- كما فعل نحو ذلك في غير آية، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام، ثم ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى‏}‏ أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم، وأصل اليتيم الانفراد ‏{‏أموالهم‏}‏ أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ- كما يأتي، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان‏.‏

أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب‏!‏ لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة، لأنه لا ناصر لهم، وقد يكونون ذوي رحم‏.‏

ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا‏}‏ أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية ‏{‏الخبيث‏}‏ أي من الخباثة التي لا أخبث منها، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم- جميع أمره ‏{‏بالطيب‏}‏ أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم‏}‏ أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان، مجموعة ‏{‏إلى أموالكم‏}‏ شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي الأول ‏{‏كان حوباً‏}‏ أي إثماً وهلاكاً ‏{‏كبيراً *‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏‏}‏

ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لا بد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى، وكانوا يلون أمور يتاماهم، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في حق من حقوقهن أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره‏:‏ فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره‏:‏ ‏{‏وإن خفتم‏}‏ فعبر بأداة الشك حثاً على الورع ‏{‏ألا تقسطوا‏}‏ أي تعدلوا ‏{‏في اليتامى‏}‏ ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن ‏{‏فانكحوا‏}‏‏.‏

ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء- ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي- مع كونه تكراراً- إلى أن يكون الكلام مجملاً- لأن الحل لم يتقدم علمه، والحمل على العام المخصوص أولى، لأنه حجة في غير محل التخصيص، والمجمل ليس بحجة أصلاً- أفاده الإمام الرازي؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏طاب‏}‏ أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ، وأتبعه قيداً لا بد منه بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ وصرح بما علم التزاماً فقال‏:‏ ‏{‏من النساء‏}‏ أي من غيرهن ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا‏:‏ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة، ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع، وهذا دليل واضح على أن النساء أضعاف الرجال، وروى البخاري في التفسير «عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، فقالت‏:‏ يا ابن أختي‏!‏ هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة‏:‏ قالت عائشة‏:‏ وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله عز وجل ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ قالت عائشة‏:‏ وقول الله عز وجل في آية أخرى ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت‏:‏ فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال» وفي رواية «في النكاح»، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له، بل لا بد من إذن السيد‏.‏

ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا‏}‏ أي في الجمع ‏{‏فواحدة‏}‏ أي فانكحوها، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى العدل لأنه ليس معها من يقسم له فيجب العدل بينها وبينه ولما كان حسن العشرة المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس، وكان الإماء- لكسرهن بالغربة وعدم الأهل- أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل‏:‏ ‏{‏أو ما‏}‏ أي انكحوا ما ‏{‏ملكت أيمانكم‏}‏ فإنه لا قسم بينهن، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار ‏{‏ذلك‏}‏ أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء ‏{‏أدنى‏}‏ أي أقرب إلى ‏{‏ألا تعولوا *‏}‏ أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم، أو تكثر عيالكم، أما عند الواحدة فواضح، وأما عند الإماء فالبعزل، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن، والبيع لمن أراد منهن، وأمرهن بالاكتساب، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء، أو تأكلوا أموال التيامى؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعنى المادة الذي مدارها عليه، لأن مادة «علا»- واوية بجميع تقاليبها الست‏:‏ علو، عول، لوع، لعو، وعل، ولع؛ ويائية بتركيبيها‏:‏ ليع، عيل تدور على الارتفاع، ويلزمه الزيادة والميل، فمن الارتفاع‏:‏ العلو والوعل والولع، ومن الميل والزيادة‏:‏ العول، وبقية المادة يائيةً وواويةً إما للإزالة، وإما لأحد هذه المعاني- على ما يأتي بيانه؛ فعلا يعلو‏:‏ ارتفع، والعالية‏:‏ الفتاة القويمة- لأ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج، والعالية من محال الحجاز- لإشرافها على ما حولها، وكذا العوالي- لقرى بظاهر المدينة الشريفة- لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره، والمعلاة‏:‏ كسب الشرف، ومقبرة مكة بالحجون- لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دونه، وفلان من علية الناس، أي أشرافهم، والعلية بالتشديد‏:‏ الغرفة، وعلى حرف الاستعلاء، وتعلت المرأة من نفاسها، أي طهرت وشفيت- لأنها كانت في سفول من الحال، والعلاوة‏:‏ رأس الجبل وعنقه، وما يحمل على البعير بين العدلين، ومن كل شيء‏:‏ ما زاد عليه، والمعلى‏:‏ القدح السابع من الميسر- لأنه الغاية في القداح الفائزة، لأن القداح عشرة‏:‏ السبعة الأولى منها فائزة، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها، وعلوان الكتاب‏:‏ عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح، والعليان‏:‏ الطويل والضخم، والناقة المشرفة، ومن الأصوات‏:‏ الجهيرة، والعلاة‏:‏ السندان، والعلياء‏:‏ رأس كل جبل مشرف، والسماء، والمكان العالي، وكل ما علا من شيء، وعليك زيداً‏:‏ الزمه- لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره، وعلا النهار‏:‏ ارتفع وعلا الدابة‏:‏ ركبها وأعلى عنها‏:‏ نزل- كأنه من الإزالة وكذا علَّى المتاع عن الدابة تعلية‏:‏ أنزله، وأعليت عن الوسادة وعاليت‏:‏ ارتفعت وتنحيت، ورجل عالي الكعب‏:‏ شريف، وعلَّى الكتاب تعلية‏:‏ عنونه كعلونه، وعالوا نعيه‏:‏ أظهروه، والعلي‏:‏ الشديد القوي، وعليون في السماء السابعة، وأخذه علواً‏:‏ عنوة، والتعالي‏:‏ الاتفاع، إذا أمرت منه قلت‏:‏ تعال- بفتح اللام، ولها‏:‏ تعالي- بفتح اللام،- ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور، لأنه يحتاج إلى تطاول مهما كان بينك وبينه مسافة، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك، وتعلى‏:‏ علا في مهلة، والمعتلي‏:‏ الأسد؛ واللعو‏:‏ السيء الخلق، والفسل، والشره الحريص، واللاعي‏:‏ الذي يفزعه أدنى شيء، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق، وإما لأنه من باب الإزالة، أو التسمية بالضد، وذئبة لعوة وامرأة لعوة، أي حريصة، واللعوة‏:‏ السواد بين حلمتي الثدي، إما لأن ذلك أعلاه، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي، والألعاء‏:‏ السلاميات، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير، وعظام الصغار في اليد والرجل، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة، وهي أعظم قوامه؛ واللاعية‏:‏ شجيرة في سفح الجبل، لها نور أصفر، ولها لبن، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء، سميت بذلك إما من باب الإزلاة نظراً إلى محل بيتها، وإما لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه طعمها وإما لفعلها هذا في السمك وتلعّى العسل‏:‏ تعقّد وزناً ومعنى- إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد، وإما من لازم العلو‏:‏ القوة والشدة، ولعا لك- يقال عند العثرة، أي أنعشك الله؛ والعول‏:‏ ارتفاع الحساب في الفرائض، والعول‏:‏ الميل، وقدم تقدم أنه لازم للعلو، والعول‏:‏ كل ما أمر غلبك، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به- لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو، وقوت العيال- لأنه سبب علوهم، وعوّل عليه معولاً‏:‏ اتكل واعتمد، والاسم كعنب، وعيّل ككيس، وعال‏:‏ جار والميزان‏:‏ نقص أو زاد، فالزيادة من الارتفاع، والنقص من لازم الميل، وعالت الفريضة‏:‏ ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض، قال أبو عبيد‏:‏ أظنه مأخوذاً من الميل، وعال أمرهم‏:‏ اشتد وتفاقم، وعال فلان عولاً وعيالاً‏:‏ كثر عياله، كأعول وأعيل، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال، وأعال الرجل وأعول- إذا حرص، إما مما تقدم تخريجه، وإما لأنه لازم لذي العيال، وعال عليه‏:‏ حمل، أي رفع عليه الحمول كعول، وفلان‏:‏ حرص، والفرس، صوتت، وأعولت المرأة‏:‏ رفعت صوتها بالبكاء، وعيل عوله‏:‏ ثكلته أمه- لما يقع من صياحها، وعيل ما هو عائله‏:‏ غلب ما هو غالبه، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً، وقد يكون بسفول، فيكون من التسمية بالضد، والعالة‏:‏ النعامة لأنها أطول الطير، وما له عال ولا مال‏:‏ شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً، وفي العلو إن كان زهداً، ويقال للعاثر‏:‏ عالك عالياً‏.‏

كقولهم‏:‏ لعا لك، والمعول‏:‏ حديدة تنفر بها الجبال- من القوة اللازمة للعلو، والعالة، شبه الظلة يستر بها من المطر؛ واللوعة‏:‏ حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم- لأنها تعلو الإنسان، ولاعه الحب‏:‏ أمرضه، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشها- كأنها ولهى فزعاً، ولاع يلاع‏:‏ جزع أو مرض ورجل هاع لاع‏:‏ جبان جزوع، أو حريص، أو سيئ الخلق- لما علاه من هذه الأخلاق المنافية للعقل وغلبه منها، ولاعته الشمس‏:‏ غيرت لونه واللاعة أيضاً‏:‏ الحديدة الفؤاد الشهمة- لأنه يعلوا غيره، وامرأة لاعة‏:‏ التي تغازلك ولا تمكنك- لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب؛ والوعل‏:‏ تيس الجبل، والشريف، والملجأ، والوعلة‏:‏ الموضع المنيع من الجبل، أو صخرة مشرفة منه، وهم علينا وعل واحد‏:‏ مجتمعون، وما لك عن ذلك وعل، أي بد- إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه والوعل‏:‏ اسم شوال- كأنه لما له من العلو بالعيد والحج، والوعل ككتف‏:‏ اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال، والوعلة أيضاً‏:‏ عروة القميص والزير زره والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو، ووعال كغراب‏:‏ حصن باليمن، والمستوعل- بفتح العين‏:‏ حرز الوعل، ووعل كوعد‏:‏ أشرف، وتوعلت الجبل‏:‏ علوته؛ وأولع فلان بكذا، أو ولع بالكسر‏:‏ استخف، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله، وولع بحقه‏:‏ ذهب، وولع بالفتح- إذا كذب، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله، وولع والع- مبالغة، أي كذب عظيم والمولع‏:‏ الذي فيه لمع من ألوان- كأنه علا على تلك الألوان، أو غلب تلك الألوان أصل لونه، وعبارة القاموس‏:‏ والتوليع‏:‏ استطالة البلق، يقال برذون وثور مولع- كمعظم، والوليع‏:‏ الطلع ما دام في قيقائه، أي وعائه‏.‏ وهو قشرة الطلع لعلوه، وما أدري ما ولعه- بالفتح أي حبسه، إما للإزالة، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه، وإما لأنه علا عليه، وأولعه به، أي أغراه، أي حمله عليه؛ والعيلة‏:‏ الحاجة، وعال يعيل- إذا افتقر، وذلك إما من الإزالة، أو لأن الحاجة علته، أو لأنها ميل، وعالني الشيء‏:‏ أعجزني، وعيل صبري‏:‏ قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه، وعلت الضالة‏:‏ لم أدر أين أبغيها، والمعيل‏:‏ الأسد والنمر والذئب- لأنه يعيل صيداً أي يلتمس فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب، وعالني الشيء‏:‏ أعوزني- إما أزال علوي، أو علا عني، وعال في مشيه‏:‏ تمايل واختال وتبختر- لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل، وعال في الأرض‏:‏ ذهب أي علا عليها مشياً، والذكر من الضباع عيلان، والعيل محركة‏:‏ عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه- كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو؛ وليعة الجوع- بالفتح‏:‏ حرقته- كما تقدم في اللوعة، ولعت- بالكسر‏:‏ ضجرت، كأنه من الإزالة، أو أن العلو للأمر المتضجر منه، والملياع- علاها، والملياع‏:‏ التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها، وريح لياع- بالكسر‏:‏ شديدة، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة- كما تقدم، وشهد له العول في الحساب والسهام، وهو كثرتها، وظهر تحامل من رد ذلك وقال‏:‏ إنه لا يقال في كثرة العيال إلا‏:‏ عال يعيل، وكم من عائب قولا صحيحاً‏!‏ وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان‏:‏ ‏{‏ألا تعولوا‏}‏ قال الشافعي‏:‏ معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه، وقيل‏:‏ إن أكثر السلف قالوا‏:‏ المعنى أن لا تجوروا، يقال‏:‏ عال يعول- إذا جار وأعال يعيل- إذا كثر عياله؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال‏:‏ معناه أن لا تكثر عيالكم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك، قال‏:‏

«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» انتهى‏.‏

وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عنه، قال‏:‏ «ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه» أفاده شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام‏:‏ إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة، وأراد الميل لكون الكثرة، لا تنفك عنه، وقال ابن الزبير‏:‏ لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها- مع ذكر في صدرها- أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله إلا الطلاق‏.‏

لأن أحكامه تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13‏]‏ ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة- ويدق ذلك ويغمض- تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 131‏]‏، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق، لا سيما ما يستكثره من الصداق، فأتبعه ما ينفي ذلك، فقال- مخاطباً للأزواج، لأن السياق لهم، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيئ له‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء‏}‏ أي عامة من اليتامى وغيرهن ‏{‏صدقاتهن‏}‏، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه‏:‏ ‏{‏نحلة‏}‏ مؤيد لذلك، لأن معناها‏:‏ عطية عن طيب نفس؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه‏:‏ وأصله- أي النحل‏:‏ إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا‏:‏ معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب، أي آتوهن ذلك ديانة‏.‏

ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة- لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم‏}‏ أي متجاوزات ‏{‏عن شيء‏}‏ ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات، ولم يقل‏:‏ منها، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ أي الصداق ‏{‏نفساً‏}‏ أي عن شهوة صادقة من غير إكراه ولا خديعة ‏{‏فكلوه‏}‏ أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم ‏{‏هنيئاً‏}‏ أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة ‏{‏مريئاً *‏}‏ أي جيد المغبة بهجا ساراً، لا تنغيص فيه، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً‏.‏ قال الأصبهاني‏:‏ فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح‏:‏ رد عليها، فقال الرجل‏:‏ أليس قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ قال‏:‏ لو طابت نفسها لما رجعت فيه؛ وعنه قال‏:‏ أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن‏.‏

ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه «نعم المال الصالح للرجل الصالح» رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال- لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا‏}‏ أيها الأزواج والأولياء ‏{‏السفهاء‏}‏ أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم ‏{‏أموالكم‏}‏ أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها ‏{‏التي جعل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة ‏{‏لكم قياما‏}‏ أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته ‏{‏وارزقوهم‏}‏ متجرين ‏{‏فيها‏}‏ وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال ‏{‏واكسوهم‏}‏ أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال ‏{‏وقولوا لهم‏}‏ أي مع ذلك ‏{‏قولاً معروفاً *‏}‏ أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه‏.‏

ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع، ولما كان السفه أمراً باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولا سيما في المال؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن ‏{‏فإن آنستم‏}‏ أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به ‏{‏منهم‏}‏ أي عند بلوغه ‏{‏رشداً‏}‏ أي بذلك التصرف، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه ‏{‏فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها‏.‏

ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لا سيما إذا خالط، لا سيما إن حصل له إذن ما؛ أدبه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها‏}‏ أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها ‏{‏إسرافاً‏}‏ أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة ‏{‏وبداراً‏}‏ أي مبادرين ‏{‏أن يكبروا‏}‏ أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها، وكأنه عطف بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال

«ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»‏.‏

ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة، أفصح به في قوله‏:‏ ‏{‏ومن كان‏}‏ أي منكم أيها الأولياء ‏{‏غنياً فليستعفف‏}‏ أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه ‏{‏ومن كان فقيراً‏}‏ وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود‏:‏ ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ أي بقدر أجرة سعيه‏.‏

ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار، أمر بالحزم- كما في الطبراني الأوسط عن أنس «احترسوا من الناس بسوء الظن»- فقال‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم‏}‏ أي اليتامى ‏{‏أموالهم‏}‏ أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها ‏{‏فأشهدوا عليهم‏}‏ أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل، والرشد يتفاوت، فالإشهاد أقطع للشر، وأنفع في كل أمر، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة، واحترز غاية الاحتراز‏.‏

ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس، وكان الحب للشيء يعمي ويصم؛ ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً- كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً ‏{‏حسيباً *‏}‏ أي محاسباً بليغاً في الحساب، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير‏.‏